يوم 7 أكتوبر- ميلاد مقاومة.. وبوصلة شرق أوسط جديد.

المؤلف: أنور الهواري10.28.2025
يوم 7 أكتوبر- ميلاد مقاومة.. وبوصلة شرق أوسط جديد.

ثلاثة أيام فاصلة نقشت أحداثًا جسيمة في سجل الشرق الأوسط المعاصر، أو بالأحرى، في تاريخ المنطقة الذي خطّته ورسمت حدوده قوى الاستعمار الأوروبي الطامحة، سعيًا وراء مصالحها المتضاربة من نفوذ وثروات طائلة وسلطة غاشمة.

  • اليوم الأول: الثالث والعشرون من يوليو/تموز عام 1798، اللحظة التي وطأت فيها جيوش نابليون بونابرت أرض القاهرة، معلنة بذلك نهاية حقبة المناعة الذاتية التي تمتّع بها الإقليم قرونًا عديدة، فقد بلغت الدولة المملوكية-العثمانية مرحلة من الانحدار لا سبيل إلى إصلاحها، بدأت بانهزام وأسر لويس التاسع في المنصورة في منتصف القرن الثالث عشر، وانتهت بالهزيمة المدوية أمام نابليون في مطلع القرن التاسع عشر.

صحيح أن حملة نابليون باءت بالإخفاق، إلا أنها كشفت لأوروبا عن مدى الضعف والوهن الذي استشرى في قوى المناعة الذاتية المملوكية-العثمانية، لتنفتح بذلك شهية أوروبا لاستعادة ما فقدته خلال الحروب الصليبية الغابرة، وبلغت ذروة هذا الاسترداد المشؤوم عندما دخلوا القدس الشريف في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917.

فخّ استنزاف

  • اليوم الثاني: الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917، حين أطلق البريطانيون وعد بلفور المشؤوم، الذي منح اليهود وعدًا بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، ففي غضون أسبوع واحد فقط، صدر الوعد وسقطت القدس، ليصبح هذا الوعد حجر الزاوية الذي قامت عليه منطقة الشرق الأوسط طيلة قرن من الزمان.

امتدّ قرن أو يزيد من تدفق الهجرة اليهودية المتواصل، ثم قيام الدولة المزعومة، وتوالي الهزائم العربية المذلة، ليتحول الكيان الصهيوني إلى ما يشبه إمبراطورية إقليمية جاثمة على قلب الإقليم، فهي التي تمنح الأنظمة تصاريح المرور، وتتوسط لها لدى الإمبراطورية الأم (أميركا). لقد باتت مسالمة الكيان الصهيوني واسترضاؤه جوهر السياسة الخارجية للدول العربية، الأمر الذي يعني التصفية الضمنية أو الصريحة للحق الفلسطيني إلى الأبد، لقد تحول الإقليم إلى هرم مقلوب، رأسه وقمته إسرائيل، وقاعدته وأرضيته الأنظمة العربية الهشة.

  • اليوم الثالث: السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، يوم بزغت شمسه ولم تغرب بعد، أطول يوم في تاريخ الكيان الصهيوني، فلم يحدث عبر تاريخه الممتد أن سقط في فخّ استنزاف حربي متواصل على مدار الساعة، ثمانية أشهر متواصلة، والاستنزاف المكلف مستمر دون توقف من خصم يحاصره العالم بأسره، ويمنع عنه مقومات الحياة منذ ما يقرب من عقدين من الزمان، وبعد أن ظنوا أن الحصار قد أضعف غزة، وأوهن المقاومة، وصفّى القضية، فوجئوا بأن غزة تقاومهم ببسالة، وأن المقاومة تحاصرهم، وأن القضية الفلسطينية تحيا رغم كل مشاريع التصفية، وتكسر الحصار المفروض عليها، وتحلّق في آفاق العالم، وتحاصر أعداءها في كل مكان على وجه البسيطة.

ابتكار معاني المقاومة

فكما كان تاريخ وعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917 نقطة انطلاق صعود الموجة الصهيونية، فإن أطول يوم في تاريخ الإقليم، السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، يمثل التاريخ المضاد تمامًا، نقطة توقف المد الصهيوني بعد أن بلغ ذروة جبروته وصلفه، وبداية صعود معاكس تمامًا، صعود الحق الفلسطيني، انبعاث من نقطة الصفر، انطلاق من أرضية الخذلان العربي الرسمي الكامل، صعود بأيدٍ فلسطينية تعيد صياغة معاني المقاومة، والتحرُّر الوطني، والثورة الشريفة.

إنّ ما قدمته المقاومة الفلسطينية الباسلة في الأشهر الثمانية المنصرمة ليس فقط روح الاستشهاد، فلطالما قدم الفلسطينيون قوافل من الشهداء عبر ثوراتهم المتواصلة طوال قرن من الزمان، ولكن ما قدمه ويقدمه الفلسطينيون على مدى ثمانية أشهر ولا يزالون يقدمونه هو ثورة ثقافية كبرى عميقة هزت أركان ثقافة القوة والطغيان والرأسمالية المتوحشة والأوليجارك الذين يتحكمون بدول العالم، وفي مقدمتهم العواصم الغربية التي كمنت حتى تعفنت، ثم ترنحت، ثم فاحت روائحها الكريهة في كل مكان، لقد أطلق أطول يوم في تاريخ العالم أعظم ثورة للضمير في التاريخ الحديث، أيقظت ضمير الإنسانية حيث وجدت إنسانية وحيث وجد ضمير.

وكما جاء في الأثر أن الشمس احتبست عن المغيب حتى يواصل يوشع بن نون قتاله ثم ينتصر، ثم يجمع غنائمه قبل غروب شمس الجمعة، وقبل أن يدخل ليل السبت، حيث الشريعة اليهودية تحرم فيه القتال، فكذلك مازال يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 ممدودًا موصولًا تتجدد فيه الأرواح وتشتد فيه العزائم، ويصمد فيه الأبطال، وتمتد فيه مواكب الشهداء بعشرات الألوف، وتنكسر أنوفُ الصهاينة، وأنوف رعاتهم وحلفائهم وضامنيهم في أميركا والغرب وأذنابهم في الإقليم.

روح ملهمة

وسيظلّ تاريخ السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023، واحدًا من أعظم الفتوحات في التاريخ، ليس فقط بالمعنى العسكري أو السياسي، بل بالمعنى الفلسفي العميق، أي فلسفة التاريخ ذاتها، كيف يتحرك وكيف يتوقف وكيف يغير وجهته، وكيف يختار طريقه، وكيف يصبغ فترة معينة بلون خاص، إنه يوم تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وصانع للتاريخ بهذا المعنى، لقد صنع لحظة ذهول مدهشة ومستغربة ومحل تعجب في لحظاته الأولى عندما انقضّت النسور على أهداف كانت تبدو في أذهان العالم أجمع منيعه أشد المناعة، وحصينة أشد الحصانة فإذا بها أوهى من بيوت العنكبوت، ومازالت لحظات الذهول والدهشة تتوالى على مدار الساعة لما يقرب من مئتين وخمسين يومًا.

إن روح الجسارة الفلسطينية تبعث الإلهام في النفوس وتشعل جذوة الأمل في القلوب، يُذكر أن جنرالات نابليون أثناء غزو إيطاليا، أشاروا عليه بالتريث قبل الاقتحام، فقال لهم: نقتحم ثم نتدبر، وثبت أنه كان على صواب، ثم القائد إبراهيم نجل محمد علي باشا، وهو من أعظم قادة الحرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حدث في إحدى الغزوات الكبرى أن تطايرت شرارات من نار فاحترقت كل معسكراته بما فيها الذخائر والأطعمة، فسأله مساعدوه: ماذا خسرنا؟ فأجاب: خسرنا كل شيء، ثم سألوه: ماذا بقي لنا؟ فأجاب: بقيت سيوفنا وعزائمنا، وقاتل قبل أن تأتيه الإمدادات من القاهرة وانتصر نصرًا مبينًا، إنها روح الاقتحام التي خارت في نفوس العرب بعد أن فقدوا الحماية المملوكية ثم العثمانية، ووقعوا تحت مطرقة الهيمنة الأوروبية ثم الأمريكية.

فكما هيمن تاريخ اقتحام نابليون القاهرة في الثالث والعشرين من يوليو/تموز عام 1798 على المنطقة قرنين من الزمان، وكما أرست بنود وعد بلفور المشؤوم في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917 أسس الشرق الأوسط لمئة عام مضت، فإن السابع من أكتوبر/تشرين الأول عام 2023 هو البوصلة التي ستوجه الإقليم لمئة عام قادمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة